الإثنين, 03 آب/أغسطس 2015 10:12

العنصرية: المسكوت عنه في إجتماعنا البشري

العنصرية 

المسكوت عنه في اجتماعنا البشري ‎ ‎

حين يغيب سلطان العقل.. 

وتندلع الأهواء.. 

السيف وحده يكون الحكم!!! 

شعر صومالي

 

‎         بقلم الأستاذ/ محمد أدروب محمد         

عضو الجمعية الدولية لدراسات الثقافة البجاوية

 

لقد وقر في بعض النفوس أن الانسان الأبيض يفضُل الانسان الأسود في تفكيره وسلوكه، فقط، لأن هذا لونه أبيض وذاك لونه أسود. ونشأت شبهات فلسفية، وسمات ثقافية ودينية وأساطير شعبيه إسنادا للفكرة. وليت كل ذلك كان يهوم في سموات خاصة به، بل هو يتفاعل مع الواقع الحياتي، فتتجلى مواقف امتهان الانسان لأخيه الانسان، لعنصره أو لجنسه أو لدينه او لثقافته وهضم حقوقه، بل ولأكثر... إبادته. 

وقد راودتني الافكار الواردة في هذا المقال حين محاولتي الرد على أحد أسئلة الاستاذة محاورتي من قناة البحر الأحمر الفضائية، في لقاء أجرته معي القناة قبيل عيد الفطر. ودارت هذه الافكار جملة في رأسي وقتها. 

وفحوى سؤال الاستاذه كان عن نشاط الجمعية- جمعية الثقافة البجاوية- وعما إذا كان في نشاط الجمعية، في بحوثها ودراساتها التي تجريها حول ثقافة ولغة البجا، عما إذا كان في ذلك النشاط "شيئ من العنصرية" على حد السؤال. 

وتلخصت اجابتي على سؤال الاستاذة المحاورة وقتها بأنه إذا كان جملة ما نقول به هو أننا شعب موجود في هذه المنطقة ومنذ ما يزيد على الأربعة آلاف سنة، وأننا نريد أن نعيش مع الآخرين في سلام وفي سلم. وإذا كنا نقول بأن السودانيين، ورغم إدعائهم الظاهر، إلا أن الواضح هو أنهم لا يعرفون بعضهم البعض من الناحية الثقافية. وإذا كنا نقول بأن من اهدافنا من بحوثنا السعي لأن نُعرّف الآخر الثقافي المعايش بثقافتنا، وأننا نريد أن نتعرف على ثقافته بغرض تحقيق تعايش سلمي قائم على معرفة واحترام كل منا للآخر. وأنه لم نقل ولا نقول بأننا خير أمة أخرجت للناس. فمن أين سيأتي المفهوم العنصري في هذا؟ 

ولقد وددت في اجابتي على السؤال أن انقل محاورتي للمفاهيم التي أوردها هنا، وكما اسلفت، فقد راودتني كل هذه الافكار حينها، إلّا أن الوقت المسموح به في لقاء القناة لم يكن ليسمح. فكان هذا المقال. 

ولأن المسألة في السؤال المطروح مسألة مفاهيمية، فيما أرى، فعليه أرى إنه لابد من ضبط مصطلحاتنا في البداية للوصول لاستخلاصاتنا حول المسألة. 

ما هو التعريف العلمي للعنصرية ؟ ما هي تبعات ممارستها؟ وهل تتم ممارستها في السودان؟ 

المشهور عن العنصرية، أو العرقية، انها نزعة يتصف صاحبها بالتعالي. ويحس بأنه أرقى كائن، وأن دمه نقي وعنصره اكثر قيمة من الآخرين، ويرى لنفسه فضلا دون مسوغات موضوعية. وهو يتعالى، ربما، حتى على من يفوقه من الناحية العلم أو الخُلق. ومن استهوتهم تلك النزعة يسعون دوما لتهيئة المناخ المناسب لفرض ثقافاتهم. 

من الناحية اللغوية فإن اصل العبارة في العربية هو: (العُنْصُر) وهو الداهية والهمة والحاجة والأصل والهيولي والحسب. وجمعه: عناصر(1).والعنصرية هي (إعتقاد فئة معينة- والمعنى من قاموس محيط المحيط- بأن أصلها وحسبها خير من حسب وأصل الآخرين). 

ومن الواضح أن ما يهمنا هنا من تلك المعاني هما: الأصل والحسب. 

ومن الواضح أيضا أنه، ومن صيرورة الاسم التاريخية، قد دخلت في معنى الاسم معان اخرى غير ما ذكر، وأنه قد صارت هنالك إعتبارات أخرى، غير الأصل والحسب، تقوم عليها تلك النزعة في النفس. إذ أن (هناك بعض الدلائل على أن تعريف العنصرية تغير عبر الزمن، وأن التعريفات الأولى للعنصرية إشتملت على اعتقاد بسيط بأن البشر مقسمون إلى أعراق منفصلة)(2). 

وتعرف العنصرية، أيضا، بأنها:

 

Prejudice, discrimination, or antagonism directed against someone of a different race based on the belief that one’s ownrace is superior

 

هذه ترجمة لتعريف قاموس اوكسفورد(3) للعنصرية، إذ يعرفها بأنها: التحيز والتمييز، أو العداء الموجه ضد شخص من جنس مختلف على أساس اعتقاد بالتميز أو التفوق العرقي. 

ونلاحظ تماس تعريف قاموس اوكسفورد مع تعريف قاموس محيط المحيط السابق، لأنه، وكما نلاحظ، قد أقام التعريف على العنصر/ العرق مثل تعريف قاموس محيط المحيط، إلاّ أن تعريف قاموس اوكسفورد يفترق عن تعريف قاموس محيط المحيط بأنه قد اضاف، إلى تعريفة لتلك النزعة، قد اضاف (سلوكا) يرتبط بالنزعة العنصرية، وهو سلوك يتميز ب(التحيز والتمييز، أو العداء) ضد آخر. 

والتعريفان، بعد، تعريفان تقليديان فيما أرى، لأن التحيز والتمييز أو العداء لا تقوم، كما نلاحظ في عالم اليوم، فقط، على الاعتقاد بتفوق النوع. إذ أنه، وكما سلف، ومن الممارسة، قد ثبت أن ظل معنى العنصرية قد تمدد ليشمل محفزات أخرى تثير (التحيز والتمييز، أو العداء) ضد الآخر ممن تتملكهم هذه النزعة. واعتقد بأننا يمكن ان نعرف العنصرية بتعريف قرب لواقع ممارستها في عالم اليوم، وهو أن العنصرية هي: 

(إعتقاد يصور لفئة معينة بأنها خير من فئة/ فئات أخرى. وأن هذه الفئة لتحس بأن لها حق في أن تتحكم بمصير الآخرين لأنهم أدنى منزلة لكونهم، فقط، ينتمون لعرق أو لجنس أو لمعتقد أو لدين أو لثقافة أخرى، وتصدر عن ذلك الاعتقاد افعال تقلل من شأن شخص/ مجموعة، لكونهم مختلفون، مما يؤثر في معاملتهم على قدم المساواة، أو يحرمهم حقوقا و/ أو امتيازات بناءا على ذلك الاعتقاد). 

ولكي لا ندخل في التعميم المخل، فإننا نعتقد في الاشتراط بربط ذلك الاحساس ب(أفعال) تقلل من قيمة (آخر). ونرى بأنه لا ضير في ذلك الإحساس في حد ذاته إذا كان محصورا لدى الفرد أو الجماعة المعينة. بمعنى أنه لا ضير في أن يكون لدى مجموعة ما الإحساس بأنها أفضل من الآخرين لأي سبب تراه، وأن تسعى هذه المجموعة، وبناءا على ذلك الاحساس، أن تتعاضد لتحسين ظروف معيشة المنتمين اليها، شريطة أن لا يؤثر ذلك في الاجتماع البشري، أي بحيث لا يؤدي ذلك الإحساس إلى التعالي والتسبب في تضييع وهضم حقوق الاخرين في ذلك الاجتماع. هذا إذا كان ذلك ممكنا. 

وقد عانت البشرية كثيرا عبر رحلتها الطويلة من اسقاطات ذلك الاعتقاد. ولقد سببت الافعال الصادرة عن ذلك الإحساس الويلات والحروب والابادة للنوع الانساني في كثير من المناطق. وتاريخ البشرية ملئ بفظائع يرويها، بدءا باسترقاق الانسان لأخيه الانسان، ومرورا بتجارة الرقيق التي مارسها الانسان منذ القدم. وقد ارتبط ذلك في غالبه بلون الرقيق، إذ اعتقد مروجوها بأن الانسان الأسود أقل قيمة عن غيره، فقط، لأنه اسود اللون. 

وقد يتم التمييز ضد شخص أو جماعة على أسس إثنية أو معتقدية أو بسبب النوع (ذكر وأنثى) أو لأسباب ثقافية، رغما عن أن الفروق الجسمانية هي الأكثر وضوحا في مناط التفرقة. والاكثر تعقيدا في هذا السياق هو ما يمكن أن نسميه (العنصرية الخفية) والتي تكمن في اللاوعي عند فرد أو جماعة، إذ ترفض جماعة ما العنصرية في علانيتها، وتعلن عن الالتزام بقيم قبول الآخر، وتمارس العنصرية خفية. وذلك يشكل بؤرة اعتقادية كامنة لدى الجماعة تنتظر الوقت الملائم. 

وتاريخ البشرية المعاصر يروي الكثير من الفظائع. ولعل آخر ما وصم جبين الانسانية من تلك النزعة هو الإبادة الجماعية في العقد الأخير من القرن الماضي في الحرب بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي، وراح في أوارها مئات اللآف من التوتسي، إذ أنه خلال فترة لا تتجاوز 100 يوم قُتل ما يربو على 800.000 شخص، وتعرضت الآلاف من النساء للاغتصاب. واغتصاب النساء كان دائما رمزا لسطوة المنتصر، والغرض منه، من الناحية المعنوية، تجسيد إهانة المقهور وكسر شوكته. 

وبالرغم من أن شكل التعايش والزواج المختلط بين افراد القبيلتين (الهوتو والتوتسي) قد انتج ثقافة ودينا ولغة مشتركة طمست انقساماتها الاثنية(4).، غير أن النعرة العنصرية في النهاية قد أودت بالطرفين إلى حرب إبادة أقضت مضاجع البشرية. 

وفي ثلاثينيات القرن الماضي كانت النازية- في المانيا- قد جاءت بفكرتها حول افضلية الجنس الآري، الأمر الذي استتبع فظائع ضد الانسانية في اطروحة النازي "الحل الأخير" في أربعينيات القرن عند محاولتها التخلص ممن وصمتهم بالدونية وبالمعاقين عقليا من غجر ويهود أوروبا. 

وما زال الضمير الانساني، وإلى اليوم، وبشكل أو بآخر، يعاني من تبعات تلك الفظائع. ولعل ما يجري في فلسطين اليوم خير مثال للتبعات التي يتحملها الضمير الانساني من هكذا سلوك. ومن الناحية الأخرى فإن ما يجري في فلسطين للفلسطينيين منذ حوالي منتصف القرن يوضح بجلاء بأنه لا كابح لتلك النزعة، وبأنها تظل كامنة تتحين المكان والزمان المناسبين كي تنفجر كما يفعل اليهود اليوم، بالرغم من أنهم قد عرفوا مغبة الاضطهاد على اساس عنصري، لا ريب، وتجرعوا من نفس الكأس وذاقوا مرارتها. 

إذن، أنه وبلباس افضلية مدعاة، وبغض النظر عن أسبابها، تحاول مجموعة ما وتحت ذلك الادعاء فرض سيطرتها وثقافتها على الآخرين. ويحاول الآخرون- بداهة- رفض تلك السيطرة والرضوخ لثقافة هؤلاء، حينها تبدأ المآسي ولا تنتهي إلا بمذابح يروح ضحيتها الآلاف. 

وسؤال الاستاذة المحاورة المذكور في لقاء فضائية ولاية البحر الاحمر يضمر ما يضمر. وربما إن الاستاذة المحاورة، فقط، قد نقلت السؤال للحوار، بما عرفت بأن السؤال يدور في رؤوس الكثيرين فيما يبدو. ولكن، وبالعودة لماطرحتُه هنا، ربما كان السؤال الضروري، فيما يتعلق بالموضوع، هو مَن مِن الجماعات السودانية يشعر بالمواصفات التي وردت عن العنصرية. أي مَن مِن الجماعات السودانية نجد عنده الاحساس بأن عنصره اكثر قيمة من الآخرين وينزع لفرض ثقافاته ولغته على الآخرين، وأي هضم للحقوق؟ 

ولرصد ذلك دعنا فيما يلي نستقرئ الحالة السودانية. ولنفعل ذلك، سنرصد كبرى المجموعات في البلاد، وسنجول في ارض المليون ميل إبتداءا من الشمال في اتجاه عكس اتجاه عقارب الساعة anti clock wise)). 

وفي أقصى شمال البلاد نجد النوبيين (الحلفاويين والمحس والسكوت والدناقلة والكنوز) هل يعرف تاريخ الاجتماع السوداني أن مارس هؤلاء أي نوع من إقصاء للآخرين أو أنهم حاولوا فرض ثقافتهم ولغتهم على الآخرين؟ 

والواقع يقول أنه حتى الشايقية والجعليين، جنوبيي أرض النوبيين، لم يمارسوا العنصرية كمنهج اتبعوه. الصحيح هو أنهم قد توافرت لهؤلاء ظروف من تعليم ومعرفة حرفية، ولحمة بينهم، جعلتهم أكثر قدرة على أن يتبوؤا المناصب في اجتماعنا البشري، الأمر الذي جعل أوضاع بعضهم المعيشية أفضل كأفراد وكأسر، والظروف التي توافرت لهم مكنتهم من أن يحوزوا، كأفراد وكأسر، على إمتيازات. ولا أدل على عدم ممارسة ذلك على أساس منهجي، ومما يمكن ان نشاهدة بأعيننا المجردة، هو أن مناطقتهم ما زالت تعاني من التهميش، ونعني به انعدام التنمية وبشكل لا يقل عن بقية المناطق الطرفية الاخرى، وبأنها لم تتمتع بأية انحيازات. والحقيقة هي أن أغلبيتهم مازالت تعاني الجهل والفاقة(5). إضافة إلى صداقاتهم وعلاقاتهم المختلفة مع الآخرين، والتزاوج بينهم وبين كل بقية المجموعات. إضافة إلى ذلك فإن مواقفهم المتباينة من مختلف القضايا حولهم ليحكي جانبا من ذلك. 

وإذا كان بعضهم قد اصيب ببعض الأوهام فلا يصح تعميم ذلك، ففي كل مجموعة مصابون. ونرى أنه علينا جميعا أن نطرق أبواب التفاهم الثقافي، وبجدية، منطلقين من ثقة بالنفس مبنية على معرفة واعية بتفاصيل ثقافتنا، والسعى، وفي ذات الوقت، للإبتعاد عن التأسي بتوهم مؤامرة مسبقة. وندور مع الاتجاه الذي اقترحناه، ونجد الفور والمساليت والزغاوة غربا. ولا يعرف تاريخ البلاد أن مارس هؤلاء إقصاءا للآخرين أو أنهم حاولوا فرض ثقافتهم ولغتهم، ومازالت منطقتهم تعاني من التهميش. 

وندور اتجاها جنوبيا غربيا، حيث النوبا. وهم اقوام قد تعرضوا للكثير في العقود المتأخرة. وكشأن بقية مناطق السودان مازالوا يعانون الجهل والفاقة ومازالت منطقتهم تعاني من التهميش. 

وندور جنوبا، ونجد انه قد انتهى الأمر بفصل الجنوب. وفيما يبدو لقد تخلصنا من الجنوب، وفيما أرى فإن ما حدث في ذلك الشأن في حاجة لمراجعة تاريخية. 

وإذا سرينا في اتجاهنا، نصل إلى جنوب شرق البلاد حيث نجد الأنقسنا. وهم اقوام لا يعرف تاريخ البلاد أنهم قد مارسوا فرضا لثقافتهم أو لغتهم على آخرين. وكشأن بقية مناطق السودان مازالت منطقتهم تعاني من التهميش وأغلبيتهم تعاني الجهل والفاقة. 

وقطعا ليس هؤلاء هم البجا في شرق البلاد. فقد ظل البجا ومنذ ما قبل الاستقلال في خانة المهمشين، ومازالوا في حالتهم من الفقر والمرض والجهل. ذلك رغما عن ملاحظتين لا يمكن إغفالهما. الملاحظة الأولى متعلقة بغنى أرض البجا من مصادر متنوعة ومختلفة (مناطق زراعية واسعة يمكن أن تحقق للبلاد اكتفاءا ذاتيا من بعض المحاصيل، الثروة الحيوانية، مجالات ثروات البحر من سمكية ومناطق سياحية وغيرها، مجالات تعدينية متعددة، والموانئ وما تدره من دخل بالعملات الأجنبية والمحلية)، والملاحظة الثانية هي أن البجا قد احتضنوا في ديارهم، وأكثر من بقية مناطق السودان- إذا استثنينا العاصمة المثلثة- قد احتضنوا كل الطيف الثقافي السوداني، ولم يعرف عنهم تاريخيا أنهم قد حاولوا فرض ثقافتهم أو لغتهم على الآخرين. 

نخلص من كل ذلك بأن المجموعات الطرفية في البلاد، تاريخيا، ليس منها من مارس محاولة قهر الآخرين وفرض ثقافاتها أو لغاتها عليهم. ومعلوم بأن المجموعات الطرفية هذه هي مجموعات أصلية في هذه المنطقة، أو أنهم يشكلون مجموعة السكان الأصليين للسودان، وهم حملة ثقافاته الأصلية في رقعته الجغرافيه منذ نشأته بفعل والي الدولة العثمانية على مصر (محمد علي باشا) في العقد الثالث من القرن التاسع عشر. 

إذن ما هي وأين هي المشكلة؟ 

كل الاطراف تعيش واقعا مزريا، والشكوى والتوتر لا يكادان ينقطعان، ومنذ نشأة الدولة. أين هي المشكلة وما هي إذن؟ 

الواضح أن الشكوى تأتي من كل الاطراف. ففي مواجهة من الشكوى؟ 

القضية فيما يبدو جلياً هي قضية مركز في مواجهة أطراف. 

وهذا المركز قد أنشأه المشروع الاقتصادي الاستعماري. ولقد اقتضي تنفيذ مشروع الاستعمار، الذي أنشأ الدولة السودانية، قد اقتضى حصر البنيات الاساسية والخدمات في المركز. وكان ذلك، فقط، لخدمة مشروعه وليس استجابة لنضال احد. 

ركز الاستعمار الخدمات في المركز، فأنشأ فيه العاصمة (باعتبارها العاصمة الرسمية للحكم الثنائي عام 1899)، وركز التعليم فيه (كلية غردون التذكارية أنشأت سنة 1899)، وحولت لجامعة الخرطوم، وكان خزان سنار (أنشأ 1925) ومشروع الجزيرة (أنشأ سنة 1928). وصارت المنطقة جاذبة لكل ذلك، فهنا الوظائف ومجالات الحياة السهلة. 

وقد لعبت المصادفة دورا خطيرا في هذا السياق، إذ صادف أن سكان هذا الوسط كانوا سودانيين منحدرين من أصول ذات هوية عربية اسلامية أو من المنتمين بالتبني والاختيار، أو بدون وعي منهم، للهوية العربية الاسلامية. ونتج عن ذلك شبه احتكار للتعليم والثروة والتدريب وقيادة السلاح لهذه المجموعة، فقط، بمصادفة وجودها في المنطقة التي استهدفها المستعمر لبناء مشروعه الاقتصادي، وليس لأسباب خاصة بتلك المجموعة من أية وجهة. فكان من البديهي أن تأتي كل قيادات الدولة من هذا الوسط، القيادات السياسية والتعليمية والعسكرية ورجال المال حيث تكدست الثروة، في الغالب، بحكم المشاريع التي قامت في المنطقة. 

وقلنا أن الواضح اليوم هو أن الشكوى من الاطراف، والتوتر منشؤه الشكوى. وتساءلنا في مواجهة من الشكوى؟ 

ولعله من السهل الوصول لاستنتاج حول فكرة (ممن الشكوى)، إذ لم يتبق من رقعة الوطن غير الوسط أو (المركز). وتاريخيا قاطني هذا المركز هم الذين أداروا البلاد، فقد جاءت منهم كل القيادات السياسية والتعليمية والعسكرية ورجال المال. وهذه هي المجموعة التي سعت وتسعى لفرض ثقافتها على الآخرين، وتعلي من ثقافتها. 

وبمطالعة سريعة لتاريخ المنطقة المعاصر سنجد أنه قد تحقق استقلال البلاد (يناير 1956) وكان شرطه وعد بالحكم الفدرالي للجنوبيين، وقد طالب البجا في مؤتمرهم (اكتوبر 1958) بلامركزية الحكم. الأولى، المطالبة ب(الحكم الفدرالي) اعتبرها الذين انتقلت الى أيديهم السلطة من المستعمر، اعتبروا المطالبة ب(الفدرالية)(6).مطالبة بإلانفصال فرفضوها بل وقمعوها. والثانية المطالبة ب(اللامركزية) سحقت تحت بيادق البيان الأول لنظام ابراهيم عبود (نوفمبر 1958). 

ويقيني هو أنه عندما طالب الجنوبيون بالفدرالية كان في مطلبهم دلالات على الإختلافات الثقافية بين الشمال والجنوب، والدليل هو أن الحكم كان ما يزال في يد الحكم الثنائي الانجليزي التركي، وانهم كانوا يستقرئون المستقبل. وكذلك البجا، فإنهم في مطالبتهم باللامركزية كانوا يوضحون اختلافا ثقافيا وأعينهم كانت على المستقبل. والدليل على ذلك هو أن الحكم الوطني كان قد استمر لفترة 33 شهر، فقط، عند مطالبة البجا باللامركزية. كان الاستقلال في (يناير 1956) ومطالبة البجا بالفدرالية كانت في مؤتمرهم في (اكتوبر 1958). 

ومطالعتنا لتاريخ المنطقة تذكر نظام الفريق ابراهيم عبود(7).(1958- 1964) والطريقة التي ادار بها قضية الجنوب. وكيف ان ذات طريقة إدارة ذلك النظام لتلك القضية كانت قد حملت بذرة حتف نظام عبود. وقد (عمل حكمه باتجاه التضييق على العمل الحزبي والسياسي وقد حل الأحزاب وصادر دورها. كما اتخذ سياسة فاقمت من مشكلة جنوب السودان حيث عمل على أسلمة وتعريب الجنوب قسرا)(8).. 

ونظام مايو (69- 1985) وبعد أن تقلب في سياساته يسرة ويمنى على مدى ستة عشر سنة، إنتهى بفض نسيج اتفاقية اديس أببا (1971)- والتي كانت من أهم منجزاته، لأنها وفرت اللامركزية والسلام لفترة طويلة في الجنوب- عشر سنوات متوالية. وانتهى النظام بتحوله إلى (خلافة اسلامية) أمير المؤمنين فيها رئيسه الذي الذي بويع على الاشهاد على المنشط والمكره(9). وشهد عهده عدة مؤتمرات في قضية تعريب التعليم في البلاد. 

وكانت (بداية التعليم العالي عام (1924) باللغة الإنجليزية حتى بدأت الدعوة إلى تعريب التعليم، فأصدرت الدولة السودانية قرارات في شأن إصلاح مسار التعليم العالي، فقامت الهيئة العليا للتعريب عام (1990)، فعملت بمساعدة الأساتذة السودانيين وهم جادون الآن في تأليف الكتب العلمية الخاصة، ويحاولون دفع سياسة التعريب في الوطن العربي وتوحيد المصطلحات العربية) (10). 

وإذا القينا بنظرة متفحصة على (المركز) الذي نتحدث عنه، فالواضح جدا هو أن (ذلك المركز) قد تكون من كل الاعراق السودانية وليس من عرق أو مجموعة سودانية بعينها منفردة. فهو مكون من (النوبيين والشايقية والجعليين والفور والمساليت والزغاوة والنوبا والأنقسنا والبجا)، أي من كل الاعراق السودانية من الذين يجأر أهلوهم بالشكوى من التهميش، والذين تعاني مناطقهم من الاهمال وغياب التخطيط لأية مشاريع تهدف لتطويرها أو تقديم خدمات ذات قيمة لها. بل ويسعى هؤلاء وفي دأب غريب، وبوعي أو بدونه، لفرض ثقافة بعينها على الآخرين بتهميش مبطن ومعلن للثقافات الأخرى. ويعرضون لغات أهلهم للانقراض، وثقافاتهم محصورة في ركن التهميش في حراك ثقافي غير متكافئ. ويبدو واضحا أنه قد تكونت عند هذه المجموعة فكرة، وهي فكرة (التفوق) على الآخر ولمحض الظروف المذكورة. والقضية إذن ليست قضية جغرافية، اطراف ومركز، إذ أنه من ناحية الجغرافيا فإنه وبالنظر للمنطقة المشار إليها- المركز- نجد أن السوار الذي يحيط بها، وابتداءا من أحياء الكرتون، وانتهاءا بالقرى التي تحيط به، سنجد أن كل تلك البقع تبعد سنوات، من حيث التنمية، مما تحيط به. 

بل أن بعض اهل هذا المركز، ممن نصفهم بالمثقفين، يذهبون لأبعد من ذلك. وتطرح مجموعة منهم أفكارا حول الأوضاع في السودان. وما تطرحه المجموعة هو إنشاء دولة قوامها النوبيين والعرب والبجا، ويختصرون اسما لهذه الفكرة هو: (عر- نوبية) والاسم اختصار للعبارتين (عرب- نوبية). ويطرحون (كوش- نار) اسما للدولة، والاسم في أصله دمج للإسمين: (كوش- سنار)، وذلك لما لاحظوه هم من أن المجموعات الثلاث- النوبيين والعرب والبجا- من ناحية أن أصولها واحدة، ومن الناحية الثانية أنها أقرب لقبول بعضها، وأنها قد تعايشت مع بعضها عبر السنين في سلام. وكما لاحظوا فإن الأطراف في السودان تسعى للإنفصال: دارفور والجنوب. ويقولون عن السودانيين بأننا (ركام متنافر خلقه الاستعمار وبه نقاط انفجار خاصة في أطرافه الجنوبية والغربية). 

ويتمادى هؤلاء فيرفضون حتى اسم (السودان) جملة واحدة. ويقولون بأن (هذا اللفظ "السودان" في أحسن أحواله هو وصف للون بشرة المجموعات التي تعيش في وسط وشرق إفريقيا، وفي أسوأ حالاته يعني "عبيد".. وإذا كنت في دول المشرق العربي وطلبت من صاحب مسحنة أن يبيعك "فستق عبيد" فسيناولك ما تسمية أنت "الفول السوداني")(11).. وتتضح هنا العقدة العميقة من اللون الأسود، وإلاحساس بدونية بعيدة المدى تجاه اللون الأبيض(12).. 

وفيما يتعلق بالمركز الذي تحدثنا عنه، فالذي يتضح من كل ذلك هو أن هذه المجموعات في ذلك (المركز) قد رتبت مصالحا خاصة وتبنت ثقافة إبتعدت بها كل مجموعة في المركز عن مصالح وهموم وثقافة أهلها في الاطراف، وانها أخذت بناصية الدفاع عن تلك المصالح وتلك الثقافة التي حققت لهم تلك المصالح الخاصة. 

وإلا كيف يمكن أن نفهم أن قادة البلاد من مجموع سكانها، فهم قطعا ليسو من مجموعات خارجية أو أجنبية، وفي الوقت ذاته فإن التهميش واقع والشكوى تتري وعدم الاستقرار في كل الاطراف ؟. 

حسنا، إنه ولكل من يهمهم الأمر، فإن ثقافاتنا هي نحن، ونحن ثقافاتنا. هي التي تحدد فهمنا للحياة وسلوكنا تجاه الناس والاشياء فيها، ولسان حال أغلبنا يقول "أنا لا أمارس ثقافتي ولا أتكلم لغتي، إذن انا لست بموجود". ونحن، من الجهة الأخرى، غير معنيين بتقييم أحد لثقافاتنا لأن أمر الثقافة أكثر تعقيدا، في ما نعتقد، من التقييمات الفطيرة تلك، والمشحونة بالأوهام. 

إلى جانب ذلك فإن الانسانية، وعبر تجاربها الطويلة التي تلفحت بالآلام والدمار والدماء والقهر قد حسمت أمرها برفض هذه الممارسة، وان كل وجدان سليم اليوم قد أقر بحق كل جماعة في العمل على المحافظة على وتطوير ثقافتها ولغتها(13).. 

.. وقد قال جلّ من قائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)- سورة الروم: 22. 

ولا من يتأمل في تلك الآيات!!

 

الخرطوم 24/11/2012

 

هوامش

 

(1) قاموس "محيط المحيط"، الانترنت: (http://www.waqfeya.com/category.php?cid=100)- 26/11/12. 

(2) يرفض جل علماء الأحياء، وإخصيائيو علم الإنسان وعلم الاجتماع هذا التقسيم مفضلين تقسيمات أخرى أكثر تحديدا و/أو خاضعة لمعايير يمكن إثباتها بالتجربة، مثل التقسيم الجغرافي، الإثنية، أو ماضي فيه قدر وافر من زيجات الأقارب- انظر العنصرية في ويكيبيديا االموسوعة الحرة. 

(3) أنظر الانترنت: oxforddictionaries.com 

(4) الانترنت، ويكيبيديا- انظر "العنصرية". 

(5) وعندما يبين الاحصاء السكاني في البلاد، خاصة في ما يتعلق بالوضع الاقتصادي، عندما يبين ذلك الاحصاء بأن 90% من سكان السودان يندرجون تحت خط الفقر، فإنه لا دليل ولا موجب للاعتقاد بأن هذه المجموعات مستـثـناة أو أن ذلك الاهمال أو التهميش لا ينطبق عليها. 

(6) ولعله من المفاراقات المحزنة أن تأتي كل القوى السياسية السودانية، وبعد رفضها للفدرالية واللامركزية الذي وضح، أن تأتي، وبعد خمسين سنة، وتقر جميعها- في معارضتها (في مقررات أسمرا 1995) وحكومتها (في اتفاق السلام من الداخل 1997)- تقر جميعها بالفدرالية. لقد تأخرنا نصف قرن من الزمان لنرى الشمس في رائعة النهار. ولقد سبقنا الجنوبيون والبجا في رؤية مصلحة البلاد، وإذا كان الحكم الفدرالي في مصلحة الوطن، فمن سيتحمل إخفاق خمسين سنة؟ لقد اخفقنا في التنبؤ بالآلام والتخلف والدمار والخسائر في الدماء والأرواح.. فمن سيتحمل استحقاقات الذي جرى؟. 

(7) الفريق إبراهيم عبود من شرق السودان، وهو من مواليد (محمد قول) بولاية البحر الاحمر عام 1900م. أكمل تعليمه الاولي والاوسط بسواكن والتحق بقسم المهندسين بكلية غردون التذكارية في 1914م. الانترنت: http://www.tawtheegonline.com/vb/showthread.php?t=1011 

(8) المصدر السابق 

(9) المعروف أن رئيس نظام مايو- امير المؤمنين هذا- هو جعفر محمد نميري دنقلاوي من قرية "ود نميري" بالقرب من دنقلا في شمال البلاد. 

(10) من بحث: تعريب التعليم العالي في العالم العربي- مقرر التعريب (30-1431هـ)، كلية اللغات والترجمة- ديمة سعد المقرن. 

(11) سأنشر في عدد قادم ورقة (العرنوبية) وبعدها سأنشر مناقشتي لتلك الورقة، هذا إذا وافقت الصحيفة على ذلك. 

(12) كما يتضح هنا التزييف المتعمد للواقع الاثني والثقافي بما ذكر من أن أصول النوبيين والعرب والبجا واحدة. 

(13) جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمؤرخ في 16 ديسمبر 1966 المادة 49 (تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيها، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب). 

كما جاء في الميثاق الأفريقي لحقوق الانسان في المادة الثانية منه بأنه (يتمتع كل شخص بالحقوق والحريات المعترف بها والمكفولة فى هذا الميثاق دون تمييز خاصة إذا كان قائما على العنصر أو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأى السياسى أو أى رأي آخر، أو المنشأ الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أى وضع آخر). 

كما جاء في الميثاق والإعلان الإسلامي حول التنوع الثقافي المعتمد من المؤتمر الإسلامي الرابع لوزراء الثقافة في ديسمبر 2004م في الجزائر، والذي ركز على سرد مميزات التنوع الثقافي وحوار الحضارات في مادته الاولى حيث أشار إلى أنه كون الإسلام منهجا ربانيا وسلوكا انسانيا يرى المسلمون أنه مادامت الثقافة تعبيرا عن عبقرية شعب فلا وجود لثقافة راقية أو ثقافة منحطة فلكل ثقافة عبقريتها الذاتية وغناها المتميز وحكمتها الخاصة مؤكدا أن تنوع الثقافات والحضارات نعمة. 

وفي الإعلان حول حقوق الإنسان في الإسلام الذي تمت إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة مؤتمر العالم الإسلامي، القاهرة 5 أغسطس 1990 في المادة 22 الفقرة (د) يرد بأنه (لا يجوز إثارة الكراهية القومية والمذهبية وكل ما يؤدي إلي التحريض علي التمييز العنصري بكافة أشكاله). الانترنت: http://www1.umn.edu/humanrts/arab/a004.html

6322 تعليقات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة