السبت, 07 تموز/يوليو 2018 20:30

أين نعلق الجرس؟؟

أين نعلق الجرس؟؟

 بقلم الأستاذ/ محمد أدروب محمد 
عضو جمعية الثقافة البجاوية

.. [طبقا لتقديرات الأمم المتحدة هناك 6000 لغة في العالم، حوالي نصفها في سبيلها إلى الانقراض في غضون القرن القادم. أي أنه وفي ال 1200 شهر القادمة ستختفي ثلاثة آلاف لغة، أي أنه في المتوسط تنقرض لغة في مكان ما من العالم كل أسبوعين أو نحو ذلك. 
وفى العقدين أو الثلاثة الماضيين كان علماء اللغات يقومون في كل أنحاء العالم بجمع البيانات المقارنة، وعندما يكتشف هؤلاء العلماء أنه قد بقي عدد قليل من المتحدثين بلغة ما، وأن لا أحد منهم ينقل تلك اللغة إلى الأطفال، فانهم يصلون إلى نتيجة مؤداها أن تلك اللغة في سبيلها إلى الانقراض سريعاً. 
تتراوح الأسباب التي تجعل العديد من اللغات تموت ما بين الكوارث الطبيعية والإبادة الجماعية والزلازل والأعاصير والفيضانات والتغيرات الطبيعية الأخرى التي بإمكانها أن تكتسح بسهولة المجتمعات الصغيرة في المناطق المعزولة. كما قد يكون الموطن غير ملائم للحياة بسبب الطقس أو الأحوال الاقتصادية خاصة المجاعات والقحط. كما قد تموت المجتمعات بسبب الأمراض المجلوبة من مناطق أخرى. كما أن الاستيعاب الثقافي يعد من أهم المهددات. لقد نشأت معظم الأزمات الحالية من الحراك الثقافي الكبير الذي بدأ منذ حوالي 500 عام مضت بسبب الاستعمار الذي أدى إلى هيمنة عدد قليل من اللغات كالإنجليزية والأسبانية والبرتغالية والفرنسية. 
لقد تأخر الوقت كثيرا جدا لعمل شئ لمساعدة العديد من اللغات، حيث المتحدثون قليلون جدا أو كبار في السن جدا، وحيث المجتمع مشغول بالجري وراء لقمة العيش ولا وقت عنده ليهتم بلغته... والمهم هو أن يكون المجتمع نفسه راغبا في إنقاذ لغته. 
ويجب أن نهتم باللغة للسبب ذاته الذي يجعلنا نهتم عندما نجد أن هناك أنواعا من الحيوانات أو النباتات تموت. 
ان الاحتفاظ باللغة هو حفاظ على تاريخ كل المجتمع وعلى جزء كبير من هويته الثقافية. إن العالم يتكون من رؤى فسيفسائية يعد فقد ولو واحدة من هذه الفسيفساءات خسارة كبيرة بالنسبة لنا جميعاً. 
أن الحفاظ على اللغة جهد مكلف جداً، فهو يستهلك الكثير من الوقت ويحتاج للعمل الدؤوب. ومن الصعب التعبير عن مدى السرور والسعادة والفخر التي يشعر بها الناس عندما يدركون أن لغتهم ستستمر، أو على العكس فمن الصعب التعبير عن الشعور بالفقد عند من يعانى التجربة. يقول المؤلف الأسترالي ديفيد معلوف في قصته القصيرة "المتحدث الوحيد بلغته"- 1985م- (عندما أفكر بان لغتي ما عادت حية تجرى على لسان الرجال، تنتابني القشعريرة، انه إحساس اعمق من إحساسي بموتى نسبة لأنه موت نوعى بأجمعه). 
إن موت اللغة لا يشبه أي شكل من أشكال الاختفاء فعندما يموت الناس فإنهم يتركون ما يدل على سابق وجودهم في العالم وذلك في شكل محل سكناهم وأماكن قبورهم. وبكلمة: بآثارهم، ولكن اللغة المنطوقة لا تترك آثاراً، وعندما تموت لغة لم تكتب أبداً فأنها تصبح كأن لم تكن] - من مقالة "هذا الانسان يستحق 100 ألف دولار"- بروفسور ديفد كريستال. 
وهذا القرن سيشهد، كما قررت الأمم المتحدة، تلاشي ثلاثة آلاف لغة. وقد تبقى من القرن الحالي 88 سنة فقط. وفيما يتعلق بالبداويت وثقافتهم فإن أكثر مهدداتها هي ما نتج من نزوح أهلنا للمدينة ولأسباب شتى. والنتيجة الطبيعية للنزوح للمدينة، تركا للديار لاستحالة الحياة فيها، كانت أن ينسى الذين ولدوا وترعروا في المدن تفاصيل ثقافتهم ولغتهم، والغالبية العظمى من هؤلاء، وبخاصة الشباب منهم، اليوم لم يعودوا يعرفونها كما يعرفها أهلوهم في البوداي وفي أعالي الجبال، وهؤلاء، وأعني أهل البادية- أو مستودع الثقافة كما نسميهم- يتناقص عددهم مع غروب شمس كل يوم. 
وفي بعض المراحل كان حجم الهجرة أكبر، خاصة في وبعد سبعينيات القرن الماضي حيث ضرب المنطقة الجفاف والتصحر، واضطر الناس للتخلص من سوامهم، وقد نفق أغلبها، واضطروا للهجرة للمدن وبأعداد كبيرة إذ لم تكن هنالك أية مجهودات من الدولة لحمايتهم أو دعمهم في مواجهة تلك الكوارث. بالإضافة إلى ذلك لعله من المعلوم أن نسبة الوفيات حاليا تكاد تكون أعلى من نسبة المواليد في باديتنا لإنعدام الرعاية الصحية من جهة، ومن الجهة الأخرى نتيجة لسوء التغذية. 
إن الواقع الذي لا يمكن القفز فوقه بأي حال هو أن البداويت (اللغة والثقافة) مهددة، ووتائر الفقدان فيها تنداح بسرعة خاصة بعد فترة سبعينيات القرن الماضي (أي منذ حوالي أربعة عقود)، فقد صار أطفالنا غرباء عنها وقد نسيها الكبار. 
الحقيقة البينة هي أن الغالبية العظمى تعيش في شظف، وأن الجري وراء لقمة العيش يستفذ الطاقات ولا يسدها أو بالكاد يسدها، ومن الناحية الأخرى فإن المطلوب لتنفيذ ما هو واجب تجاه ثقافتنا ولغتنا كبير وثقيل. 
والمرؤ لا يستطيع أن يختبئ وراء أصبعه، فما هو واجب يظل واجبا مهما كانت الظروف، فلنلتزم جميعا بالمشاركة بأقل القليل الذي نستطيع، فلعله من البديهي أن القليل إلى القليل.. كثير. 
وإذا استمرت وتائر الفقدان في الثقافة واللغة بمعدلاتها الحالية، وإذا ظللنا في حالة اللّا فعل التي تغيم فوقنا، فلن يكون مفاجأة كبيرة أن تجد مجموعة صغيرة، أو فرد من البداويت (بعد حوالي تسعة عقود)- أو بعد ال88 سنة المتبقية من القرن الحالي- أن يجد نفسه يشارك بطل قصة "المتحدث الوحيد بلغته"... إحساسه بموت نوعه بأجمعه. 
فأين نعلق الجرس؟؟ 
بورتسودان في 25/02/2012

 

5193 تعليقات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة