الجمعة, 13 تموز/يوليو 2018 16:10

هذا الانسان يستحق

هذا الانسان يستحق

 
ترجمة الأستاذ/ فؤاد عكود 
المركز النوبي للدراسات- القاهرة

تموت اللغة عندما يموت آخر شخص يتكلمها، والاحتمال الأكثر أنها تموت عندما يموت آخر ثاني شخص يتحدثها إذ في هذه الحالة فلن يكون هناك شخص قد بقى ليتحدث معه ذلك الشخص الوحيد. وليس هناك أمر غير طبيعي بشأن موت لغة، إذ جاءت المجتمعات البشرية وذهبت على مدى التاريخ وذهبت معهم لغتهم. لقد ماتت الحيثية على سبيل المثال عندما اختفت حضارتها في زمن الكتاب المقدس ( العهد القديم) ولكن ما يحدث اليوم لهو أمر غير عادى. 
فطبقا لأفضل التقديرات هناك 6000 لغة في العالم، منها حوالي النصف في سبيلها إلى الانقراض في غضون القرن القادم، أي ثلاثة آلاف لغة في 1200 شهر وهناك في المتوسط تنقرض لغة في مكان ما من العالم كل أسبوعين أو نحو ذلك. 
وفى العقدين أو الثلاثة الماضيين كان علماء اللغات يقومون في كل أنحاء العالم بجمع البيانات المقارنة، ويقوم هؤلاء العلماء عندما يكتشفون بان هناك عدد قليل من المتحدثين بلغة ما قد بقوا، وان لا أحد منهم ينقل تلك اللغة إلى الأطفال، فانهم يصلون إلى نتيجة مؤداها أن تلك اللغة في سبيلها إلى الانقراض سريعاً. ويجب أن نصل إلى النتيجة ذاتها إذا كانت اللغة يتحدثها اقل من 100 شخص فهذا معناه أن تلك اللغة لن تعيش طويلا. وقد اظهر إحصاء تم أجراؤه في عام 1999م أن %96من لغات العالم يتحدثها 4% فقط من الناس. 
وفى جدول اثنولوجى جديد (فبراير 1999م ) قام بجمعه وتصنيفه معهد " سمر" للغويات قدر أن هناك 6784 لغة تتوفرة ببيانات لـ6060 لغة، منها 51 لغة يتحدثها شخص واحد فقط – منها 28 لغة في استراليا وحدها – وبالإضافة إلى الإجمالي الموجود في الجدول يظهر أن هناك حوالي 500 لغة في العالم يتحدثها أقل من 100شخص و 1500 يتحدثها اقل من 1000 شخص و 5000 لغة تترنح يتحدثها اقل من 100.000 شخص. 
الأسباب التي تجعل العديد من اللغات تموت تتراوح ما بين الكوارث الطبيعية ومختلف أشكال الاستيعاب الثقافي إلى الإبادة الجماعية والزلازل والأعاصير والفيضانات والتغيرات الطبيعية الأخرى التي بإمكانها أن تكتسح بسهولة المجتمعات الصغيرة في المناطق المعزولة. كما قد يكون الموطن غير ملائم للحياة بسبب الطقس غير الملائم والأحوال الاقتصادية خاصة المجاعات والقحط. كما قد تموت المجتمعات بسبب الأمراض المجلوبة من مناطق أخرى. كما أن الاستيعاب الثقافي يعد من أهم المهددات. لقد نشأت معظم الأزمات الحالية من الحراك الثقافي الكبير الذي بدأ منذ حوالي 500 عام مضت بسبب الاستعمار الذي أدى إلى هيمنة عدد قليل من اللغات كالإنجليزية والأسبانية والبرتغالية والفرنسية. 
لقد تأخر الوقت كثيرا جدا لعمل شئ لمساعدة العديد من اللغات، حيث المتحدثون قليلون جدا أو كبار في السن جدا، وحيث المجتمع مشغول بالجري وراء لقمة العيش ولا وقت عنده ليهتم بلغته، ولكن هنالك أيضا العديد من اللغات التي ليست في هذا الوضع الخطير، وغالبا عندما تكون اللغات معرضه للخطر بدرجة كبيره هناك أشياء يمكن عملها لمنح حياة جديدة لها تسمى بعث الحياة من جديد؛ وما أن يدرك المجتمع أن لغته في خطر فأنه يهب معا ويقدم ضوابط يمكنه عن طريقها بعث الحياة بشكل عام. 
ولكن يجب أن يكون المجتمع نفسه راغبا في إنقاذ لغته. 
ويحتاج هذا الأمر إلى الدعم المادي وتنظيم الدورات التدريبية والمواد والأساتذة. كما يحتاج إلى اللغويين بالإضافة إلى المهمة الأساسية الخاصة بوضع اللغة على الورق. أن الحد الأدنى المطلوب هو: توثيق اللغة وتسجيلها وتحليلها وكتابتها، كما يجب أن يكون الناس قادرين على القراءة والكتابة إذا ما رغبوا في أن تكون للغتهم مستقبل في عصر حضارة ثقافة الكمبيوتر. 
ويجب أن نهتم للسبب ذاته الذي يجعلنا نهتم عندما نجد أن هناك أنواع من الحيوانات أو النباتات تموت. 
ان الاحتفاظ باللغة هو حفاظ على تاريخ كل المجتمع وعلى جزء كبير من هويته الثقافية. أن العالم يتكون من رؤى فسيفسائية يعد فقد ولو واحد من هذه الفسيفساءات خسارة كبيرة بالنسبة لنا جميعاً. 
اننا يمكننا أن نتعلم الكثير من رؤى الآخرين. ويكون التعليم في بعض الأحيان عملية واضحة بشكل عملي: عندما نكتشف علاجا طبيا جديدا من الطب الشعبي الذي يمارسه الشعب. كما انه في بعض الأحيان فكرى: عندما يزيد وعينا بتاريخ عالمنا وذلك عندما تكون الصلات بين اللغات شيئاً عن التحركات المبكرة للحضارات. ونحن غالباً ما نتعلم ما هو جديد بشأن اللغة نفسها، ذلك السلوك الذي يجعلنا بشرا حقيقيون. هذا هو السبب في انه من المهم جدا تزويد هذه اللغات بالوثائق سريعاً، ومع كل لغة تندثر يضيع مصدر مهم من المعلومات الثمينة عن طبيعة قدرة اللغة، إذ هناك فقط حوالي 6000 مصدرا في الجملة. 
ولكن هل بإمكاننا أن نبقى ببساطة بضع مئات من اللغات ؟ نعم، إذا ما توفرت الإرادة والمال اللازمين، ولكن الأمر ليس سهلاً، فالأمر يتطلب وضع اللغويين في الميدان وتدريب المحللين المحليين ودعم المجتمع بالمصادر اللغوية والأساتذة، وجمع وتأليف كتب القواعد والمعاجم، وكتابة المواد لاستخدامها في المدارس. أن الأمر يستغرق وقتا – الكثير من الوقت– وذلك لبعث الحياة من جديد في لغة مهددة بالاندثار. وتختلف الأساليب بشكل كبير لدرجة من الصعب التعميم، ولكن رقم 100.000 دولار في العام لكل لغة لهو أمر لن يكون بعيدا عن الواقع والحقيقة. وإذا ما كرسنا هذا الكم من الجهد لحوالي ثلاثة أعوام – لحوالي 3000 لغة، فهذا يعنى أننا نتحدث عن 900 مليون دولار. 
وهناك حالات مشهورة توضح ما يمكن عمله؛ ربما أشهرها اللغة العبرية الحديثة التي تم بعثها لتعمل كلغة رسمية لإسرائيل. ثم لدينا حالة اللغة الويلزية وهى اللغة الوحيدة من بين اللغات الكلتية التي تم إيقاف انحدارها المستمر نحو الاندثار، وطبقا لإحصاء عام تم أجراؤه في عام 1991م، إن هناك إشارات بأنها قد بدأت تسير نحو نمو حقيقي. وهناك تشريعان خاصان بحماية وضع اللغة الويلزية الآن. والمسافر في الوقت الحاضر يلحظ حضورها المستمر أينما سافر في ويلز. 
وعلى الجانب الآخر من العالم، يتم الحفاظ على اللغة الماورية في نيوزيلندا، وذلك عن طريق ما يسمى " بأعشاش اللغة " الذي تم تقديمه في عام 1982م، إنها منظمات تزود الأطفال تحت سن الخامسة بمجموعة من الكتب والمؤلفات الوطنية تتعرض للغة بشكل مكثف. كما يتحدث الماورية كل العاملين وكلهم من المجتمع المحلى. إن الأمل هو أن هؤلاء الأطفال سيحافظون على بقاء المهارات الماورية بعد تركهم "الأعشاش" وأنهم عندما يشبون سيصبحون بدورهم نماذج للأجيال الجديدة من الأطفال الصغار. 
هناك حالات مشابهة في كل أنحاء العالم.. 
.. فقد تم تطبيق برنامج لغوى مشابه في هاواي بنتائج مبشرة بالنسبة لسكانها. وتم تطبيق الشيء نفسه بالنسبة للغة التاهيتيه (في هايتى ) واليوكاجير (في سيبيريا) وفى أمريكا الشمالية (النافاجو) و(الشنسا) و(الموهوك)، وهى كلها من بين العديد من اللغات الهندية التي بدأت في الاستفادة من رفع مستوى اهتمام المجتمعات المحلية معا مع الدعم السياسي في شكل إجراءات تضمن حقوق اللغة، وعندما تتحد اللغة التي تم أحياؤها مع درجة من الاستقلالية السياسية فان النمو قد يكون لافتا للنظر بشكل خاص، كما أوضحتها اللغة (القروية) في جزر قيرو، بعد أن حصل سكانها على درجة من الحكم الذاتي من الدانمارك. 
كما تواجه (الرومانشية) في سويسرا موقفا صعباً، إذ يتحدثها عدد قليل ومتناقص من السكان بخمسة لهجات مختلفة، ويسير عدد المتحدثين بها في التناقص نسبة لأن الشباب يتركون مجتمعهم للعمل في المدن التي تتحدث الألمانية. لقد كان الحل هنا، انه تم في الثمانينات أحداث لغة مكتوبة موحدة لكل هذه اللهجات. وأصبح ل(رومانيش جريتشن) -كما تسمى الآن – وضع رسمي في بعض أجزاء من سويسرا وصارت تستخدم بشكل منطوق في الراديو والتلفزيون. 
أن اللغة يمكن استعادتها من حافة الاندثار، فلغة (الآينو) اليابانية –بعد إهمال وقمع استمر لسنوات عديدة – وصلت لدرجة أنه لم يبق من المتحدثين بها بطلاقة سوى ثمانية أشخاص من كبار السن ومع ذلك فقد تم اتخاذ سياسات ومواقف حكومية جديدة واهتماما إيجابيا للحفاظ على هذه اللغة. فالعديد من الأشخاص شبه المتحدثون الذين اصبحوا غير راغبين في التحدث (بالاينو) بسبب المواقف السلبية من المتحدثين باللغة اليابانية، قد تم حصرهم ليصبحوا مرة أخرى من المتكلمين النشطاء. وهناك اهتمام جديد الآن في العمل مع الأطفال واللغة أكثر قبولاً من قبل الجمهور عما كانت عليه لعدة سنوات. كما تم أحياء والحفاظ على العديد من اللغات الأسترالية الأصلية التي كانت معرضة بشكل خطير للاندثار – فشكرا لجهود المجتمع والعمل الذي قام به اللغويون الأستراليون والمساعدة التي قدمتها المنظمات اللغوية والثقافية المحلية، فحتى اللغات المنقرضة، إذا ما توفرت التوصيفات الجديدة بالإضافة إلى المواد، يمكن بعثها من جديد؛ وخير مثال على ذلك هو لغة (الكورنا) في جنوب استراليا، إذ أن هذه اللغة كانت قد انقرضت منذ قرن تقريباً، ولكنها كانت موثقة بشكل جيد، لذا فعندما بدأت حركة قوية لأحيائها كان بالإمكان إعادة بناءها. 
إن اللغة المعدلة لا تكون مثل الأصل على أية حال، فهي تفتقر المدى والنطاق الذي كانت اللغة الأصلية تمتلكه، بالإضافة إلى الكثير من المفردات القديمة، ولكنها مع ذلك تعمل كرمز للهوية الحالية لشعبها. وطالما استمر الناس في تقيمها على أنها علامة حقيقية لهويتهم وانهم مستعدون في الاستمرار في استخدامها فأنها ستنمى وظائف جديدة ومفردات لغوية جديدة كما تفعله أية لغة حية. 
إنه من السابق لأوانه التنبؤ بمستقبل هذه اللغات التي تم إحياؤها. ولكن هناك في بعض أجزاء من العالم سلسلة من المواقف الإيجابية ودعم من القواعد – الشرط المسبق لأحياء اللغة – ويمكن مشاهدة ذلك الاهتمام في بريطانيا في شكل حركات حماسية تدعم أحياء لغات (الكورنيش) و(المانكس)، تلك اللغات التي مات أخر المتحدثين بها منذ عقود مضت. وبهذه الطرق غير المتوقعة بإمكاننا أن نرى أن الحد الأدنى للإجمالي الكلى للغات في العالم قد تزايد. 
أن الحفاظ على اللغة مكلف جداً، فهو يستهلك الوقت ويحتاج للعمل الدؤوب، ولكنه جدير بالاهتمام بشكل كبير. ومن الصعب التعبير عن مدى السرور والسعادة والفخر التي يشعر بها الناس عندما يدركون أن لغتهم ستستمر، أو على العكس فمن الصعب التعبير عن الشعور بالفقد عندما تعانى التجربة. يقول المؤلف الأسترالي ديفيد معلوف في قصته القصيرة " المتحدث الوحيد بلغته"- 1985م- (عندما أفكر بان لغتي ما عادت حية تجرى على لسان الرجال، تنتابني القشعريرة، انه إحساس اعمق من إحساسي بموتى نسبة لأنه موت نوعى بأجمعه). 
أن موت اللغة لا يشبه أي شكل من أشكال الاختفاء فعندما يموت الناس فانهم يتركون ما يدل على وجودهم في العالم وذلك في شكل محل سكناهم وأماكن قبورهم. وبكلمة: بآثارهم، ولكن اللغة المنطوقة لا تترك آثاراً وعندما تموت لغة لم تكتب أبداً فأنها تصبح كأن لم تكن.

المصدر: HIGH LIFF MGZN, By: DAVID CRYSTAL

1512 تعليقات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة